فوق رؤوس الموتى "قصة قصيرة"
للمرة الثانية أجد شيئاً يجذبنى للذهاب إلى هناك . أذكر المرة الأولى_وكيف أنسى ؟_حين أخذتنى "ستى" إلى الجبل .
ظننت أن سبب ذهابى حينها قوة غامضة تجذبنى وأنا طفلاً لا حول لى ولا قوة .حينها كُنتُ لم أبلغ السابعة من العمر بعد ، أخذتنى الدهشة حين قالت "ستى" : تيجى وياي الجبل ؟
أجبتها : حنروحوا نعمل إييه ؟
_حنروحوا نزوروا خوالك وجدك
_وعنشفوهم ؟
_لييه هو إللى مات حد عيشوفه ؟
_إمال حنروحلهم الجبل لييه ؟
_عشان نترحموا عليهم ونِقرُولهُم الفَاتِحْه ونوزعوا الرَحِمِه على الغلابِه
_ بذل ما نروحوا.. مَنِقُرُولهم إهنى الفاتحِه
_معينفعش يُود نحنا لازم إرُوحُوا عَشان النِهَارِدِة الليله
_ليله إيه يا ستى ؟
_ليله النص من شعبان الكل عيروحوا إهناكيتى يزوروا اللى عيحبوهم ويقعدوا وياهم .
***
تذكرتُ كل هذا بعد مرور عشرة أعوام ، أتجه إلى الجبل اليوم ، لزيارة أبى ، والجلوس معه وقراءة الفاتحة على قبره ، والترحم عليه فى أول ذكرى ليلة النصف من شعبان تمر عليه . لم يكن السبب قوى مجهولة اليوم قدر ما كان إشتياقاً له ، ولذكرى الجبل !
أخذتنى "الركوبه" بين الطرق الملتوية الضيقة التى من حولها "لحواش والدواوير " ، أتفحص "اللشولة" التى تحتوى على "قرص الميتين " و"فطير ناشف" وأتفحص أيضاً "عدايات الطماطم " والفواكه . أعود بجسدى للأسترخاء على مقعدى وبذاكرتى للأسترخاء على الماضى وأتذكر .
***
_إصحى يا وِيلِد
_رايحين وين؟
_الجبل
نظرت من النافذة ووجدت الدنيا ظلاماً فخُفتُ من الذهاب فقلتُ : دِيلوقِيتِى ؟
_ إيوِه يا واد
كان الجميع من حولى مشغولاً كلٌ فيما يقوم به من تحضير الأطعمة التى كانوا يحبها الموتى فى حياتهم ، تعجبت : الميت عياكل ؟
ولو كان يأكل تساءلت : هو زوق الميتين معيتغيرشِ ؟
نظرت إلى "ستى" وقلتُ : هو إحنا عنزلوا الوَكِل داتي للميت ؟
_لع دا داتى عنطلعوه رحمة على روحهم وعنفرقوهم عالغلابه وعنودوا منُِه للمشايخ والحفارين
جهز الجميع قبل "الفجرية" وأخذوا "الأشوله" و"العدايات " وأنطلقنا وركبنا " الركوبه" وذهبنا إلى هناك ..حيث الجبل ..حيث الميتين ينتظرونا .
***
نزلت من "الركوبه" وأخذت حاجاتى ، وأتفقت مع السائق أن يأتي ليقلنى بعد صلاة الفجر . سرت فى "لحواش" حتى وقفت أمام "شهد" أبى .
قرأت على روحه الفاتحة ، ووقفت تجبيلاً لذكراه .شعرت بعينى تدمع وتتساقط دموعى على شاربى . وقلتُ : الله يرحمك يا بوي ، مِحتَاجلَكَ قَويّ .
إتجهت إلى شهد " ستى " وقرأت على روحها الفاتحة ..وتذكرت بعض من اللحظاتِ التى قضيناها هنا .
***
دخلنا جميعا "الدوار" ، وكأن الميتين قد ماتوا الآن فأنطلقت الصرخات والبكاء من كل صوب ومن كل وجدان .كل " حرمه " تتجه
صوب "شهد راجلها"وتبكى كثيراً ، تعجبتُ من كمِ الضحكات التى كانت "بالفجرية الأمس" وهم يحضرون الطعام وكم البكاء الخارج الآن!
أخذتنى ستى إلى قبر "سيدى" وقرأت له الفاتحة وهى تدمع ، لا أظننى رأيتها من قبل تصرخ أو تبكى .
سألتها عن "سيدى " فأجلستنى على حِجْرها وحكت لى عنه كل شىء وهى تلعب بيديها فى شعرى ، وكان من عادتى حين تفعل ذلك أغرق فى النوم
وظننت أن القوى المجهولة التى جذبتنى إلى هنا اليوم منعت النوم من الأقترابِ ..كمى أن حكايات "ستى" كانت حلوة قوى .
***
أيقظنى الضجيج من الذكريات ،فرأيت بعض أقربائى يدخلون "للحواش" ،سلمت عليهم ووقفت مع أحدهم وكان الأقرب إلى قلبى ومن ذكرياتى قلتُ له: _ كيفك عامل إييه ؟
_زيين ..زين.. الحمد لله
تجولنا سوياً فى "للحواش" فرأينا قبر مفتوح ، وقد كنت أعرف القبر وصاحبه فكان لزوج خالتى ، تعجبت لأهمال "الحفارين" ظننت أنه ربما أنهار ولكن لم تكن هناك علامات دالة على أنهيار " الفسقية" سألت صاحبى : القبر داتى مفتوح حد ملفحارين قالكم عليه ؟
_ محدش قاليِنا واصل
_طب تعالَ نِطُلُوا عَلِيه
نظر إلى وضحك قائلاً : بذل مَنقعوا تانى ..مَخَيّفشِ ؟
سرى الرعب فى جسدى ، وذكرت شىء لم أنسه أبداً .
***
بعد ما حكت لى "ستى " حكاياتها عن "سيدى" ، كثر الأطفال من حولى فذهبت للعب معهم .
لعبنا " الغميضة " ، عد أحدهم حتى مبلغه من العد ، وجرى الجميع فى كل أتجاه ، وكُنتُ أنا وصديقى على الرغم من أنه يكبرنى بست أعوام ، إلا أنه كان قريباً إلى قلبى وكُنتُ له كذلك . أثناء جرينا والشمس فى منتصف السماء سمعت خطواتى فقط . نظرت من حولى باحثاً عن صديقى فلم أجده .
ظننته مختبىء خلف أحد "الشهود" نظرت من حولى فلم أعثر عليه ، أنتابنى بعض الخوف ، وخُفتُ أكثر حين تذكرت كلام "ستى" عن وقت الظهيرة الذى يظهر فيه العفاريت ، فظننت أن صديقى قد خُطف . ونحن على أرض المقابر !
سرت عائداً من حيث أتيتُ رغم ضياع الطريق منى وخوفى الذى أرتدانى . ألتفت مرة أخرى أبحث عنه فوقعت !
نظرت فوجدت الظلام من حولى ، أعتدلت فى محاولة منى للفهم ، وجدت يداً تلمس يدي .. علمتُ أنه أحد الأموات الأحياء . فتأكدت أنى داخل قبر وأسود الظلام أكثر وأغميّ عليّ !
***
_آني لما فوقت "ستي" قالتلى إنك أنت اللى كونت مرمى جارى فى القبر بس آنى حلفت ميت يمين إن ديت مش يدك دى يد ميت
_هو آني كُنتُ دارى بحاجه ، آنى كُنتُ ملقح ..بس عارف آنى مغماش عليا من الخوف ..آنى منالخبطة أغمي علي ..مش زيك من الضرعة ..دا انتَ قعدت مضروع تلاتِ شهور
ظللنا نضحك على ذكرياتنا ، رغم إيمانى أنه أغمي عليه لذات سببى ، أقتربنا من القبر ، فنظرت فيه ووجدت زجاجات خمرة ..وأوراق "بفره" وأعقاب سجائر وبعض مستلزمات ليالى ضبابية أو حمراء اللون ..فعدتُ أتذكر ما لم أفهمه فى صغرى ..
***
ظلت "ستى" تردد : محسب جبريل ..محسب جبريل !
بينما وضع عمى يده على رأسى وقرأ القرآن ..قل خوفى وبكائى ، وغربت الشمس ، فكان مشهد المقابر مخيفاً أكثر . ولولا أن عمى أمسك يدي وأخذنى لنطوف حول المقابر ويسلينى بالحكايات لكنتُ أرتجفت أكثر . تعالى صوت القرآن الأتى من جهة اليسار حيث أضرحة المشايخ ، بينما تعالى صوت الأناشيد على يمين "لحوش" الذى نسير فيه ، وأتى من أمامنا صوت أغانى ، وموسيقى ، وطبول ، وضحكاتِ .
فعرفت أن هذا هو طريقنا . وقلتُ لعمى : إيه داتى يا عم ؟
_ تعال عفرجك على حاجات حلوة قوى ..عتنبسط ..وعتنسى الخوف ! ولا أقلك تعال إروحوا أشربك ميه من عند الشيخ عشان الضرعه تروح
مر من أمامنا ثلاثة فتيات تجرى وثلاثة رجال وراءهن . أخذوا نظرى حتى أخذهم الظلام .
دخلنا " حوش" بعض الأقارب ، وسلمنا عليهم ، وأخذتنى أحدى الفتيات على حجرها ، وأتت أخرى ببعض التفاح ، وأخذن يلعبن معى .
أخذنى اللعب والمزاح إلى أن تذكرت عمى ، نظرت حولى فلم أجده معنا ، فظللت أبكى مرددا : عمى وقع فى القبر ..عمى وقع فى القبر !
قالت أحداهن :أنت عتعيط ليه ..عمك موقعشِ ولا حاجِه
زاد بكائى فأمسكت يدى وأخذتنى معها وقالت :تعال عوديك ليِه ..بو علييك..كفاياك عِياط و متعملشِ صوت وأمشى براحِه
وصلنا إلى "حوش" سوره يبلغ طولى ، أنخفضت الفتاة ونظرت مختبئة وضحكت وقالت : تَاجِى تشوف عمك ؟
أجبتها بإيماءة رأسى أن نعم ، رفعت رأسى فوجدت أثنين عاريين ، نائمان فوق بعضهما .فتبين لى ملامح عمى ، وأرتفعت الصرخات والضحكات .
فنزلت إلى أسفل السور مندهشاً وقلتُ للفتاة : بَه .. إيه هو داتى ؟ دا إكِدِه حرام ..كيِ عمى يعمل إكِدِه ؟
فنظرت الفتاة متعجبة لفهمى ، وأخذتنى من هنا مسرعة ، وقالت لى : أوعاك تقول لحد عاللى أنت شوفته داتى !
***
بينما أنا وصديقى نسير فى "للحواش" أوقفنا رجلين مشوهين الملامح ، فتذكرت ما فعله عمى حين حدث المثل ووقفت متسمراً فقال أحدهم :
_ وَقِف عندك إنت وهو.. رايحين على وين ؟
أجبته مصتنعاً الشجاعة : وأنت إيه دَخِلَك ؟ أروح مَطرح مَرُوح ..إنتِ شريكي ؟
_يه يه يه ! أنت مين يا ويلد ؟ وكِيِف عم تتحدت معايا إكده ؟
_ آني صدام ود حسن السعران !
_ حسن السعران ! أنت من وين يا ويلد ؟
_أنى من عيلة الهوارنه ..عارفهم ؟
_حسن السعران ..الله يرحمه ..لا راجل يا ويلد.. راجل.. من دهر راجل ..طب يا ولدى ما تمشيش إكده تانى لوحديِك ومين داتى التانى اللى معاك ؟
_ واد عمي
سمحوا لنا أن نتابع طريقنا بالأحتفاظ بنقودنا كمى أنهم أرادوا أن يقوموا معنا بواجب الصعايدة ،ولكننى رحلت معتذراً متحججاً بالوقت .
تابعنا طريقنا حتى وصلنا إلى المولد ، حيث الرقاصات والأغانى ، والفتايات . وبعض الراقصين بالأحصنة ، دفعنا نقود لمشاهدة الرقاصات ، ووجدنا بالداخل كل أصناف المخدرات فتذكرتُ حين سألت "ستى" : هى الهوجة ديت مش عم تزعل الميتين ؟
قالت : لع يا ولدى دا دولت حبايبهم !
_هو "سيدى" يعرف كل دول ؟ مش كل ميت ليه حَبَايِبوه
_الميتين تحت كلاتهم حبايب ..فمحدش عما يزعل من حبايب حبايبه !
بعد لحظات من جلوسى مع صاحبى ، شعرت بالأختناق من المكان ، وتمنيت لو أتى السائق الذى سيقلنى من هنا مبكراً ، ولولا أنتظارى لمرور الوقت ما جلست هنا ، حيث السكر والزنا والرقص على أرض المقابر .فوق رؤوس الأموات ..نظرت إلي صاحبى وقلتُ له :
_ أنت عارف إنى دلوقييتى أتوكِت أن اليد اللى كانت تحت فى القبر لما وقعت مش يد عفريت ..وإنها يدك !
ضحك وقال : يه يه يه ..اركحل عَليك..إنت لسه فاكر ؟ ومتوكد دلوقيتي ؟ جاك الهوت ! سيبك من اللى بتحكى فيه ديه وخلينا نوجوج الدنيا !
أجبته شارداً : والله ماني دارى مين ميت ومين حي !